الوطن العربي والسقوط الأكبر في تاريخ تيار اليسار والقومية

بداية خمسينيات القرن الماضي كان زمن صعود التيارات اليسارية والقومية في الوطن العربي بعد أن شهدت عدد من الدول العربية موجات تحرر من الاستعمار الخارجي وكان هناك ما يشبه الفراغ فأتت موجة القومية واليسار لتسود المشهد نوعاً ما في ذلك الوقت

الوطن العربي والسقوط الأكبر في تاريخ تيار اليسار والقومية

وكان من أبرز رموز تلك الحقبة جمال عبدالناصر في مصر وحزب البعث العربي في العراق وسوريا وكذلك بعض حركات وأحزاب اليسار في عدد من البلدان العربية وعوّل الشارع العربي على تلك الحركات والرموز الكثير فيما يتعلق بإحياء روح الوحدة والتماسك العربي بما يسهم في قوة الموقف أمام كل الصعاب والتحديات والأخطار التي تواجه الأمة..

وسيم عبدالله حليف

صراع عربي عربي
شهدت حقبة صعود التيارات القومية واليسارية في الوطن العربي صعود تيار مضاد بزعامة السعودية التي رأت في هذه التيارات خطرا عليها وعلى الأنظمة الملكية التي كانت تحكم العديد من البلدان العربية فضلا عن استخدام هذه الأنظمة من قبل البريطانيين والأمريكان ضد ما كان يمثل امتدادا للمعسكر السوفيتي وهي تلك التيارات القومية الصاعدة في مصر وغيرها وشهدت الساحة العربية صراعا غير مباشر بين هاتين الكتلتين (المعسكر السوفيتي وبريطانيا وأمريكا) اللتين خرجتا منتصرتين في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا النازية ودخلتا في موجة صراعات وحروب باردة وحروب بالوكالة في عدد من المناطق والبلدان والتي من بينها المنطقة العربية ، ووصل التصعيد بين السعودية وبعض القوى العربية من جهة ومصر وبعض الدول والتيارات العربية من جهة ثانية إلى التبني المباشر لجبهات ميدانية في حروب داخلية مفتوحة في عدد من البلدان العربية من بينها اليمن التي كانت تشهد صراعا أدى إلى الإطاحة بالنظام الملكي وبدا الأمر كما لو أنه انتصار مصري على السعودية بالنظر لتموضع الطرفين خلف طرفي الصراع في اليمن آنذاك ليستمر الصراع بينهما على مستويات مختلفة من بينها المستوى الإعلامي الذي شهد صراعاً محموما حيث كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تهاجم السعودية والقوى الملكية في الوطن العربي صراحة بينما حشدت الأخيرة جهودا إعلامية لمهاجمة مصر والتيارات العربية التي تدور في فلكها.

مراحل من التراجع
بعد نكسة يونيو 67 وهزيمة الجيوش العربية على يد الكيان الإسرائيلي بدأت مرحلة انحسار وانكسار تيار القومية واليسار العربي وتراجع بشكل تدريجي دور مصر وسوريا والقوى العربية الرديفة فيما بدأ عصر صعود القوى الموالية للغرب في المنطقة العربية وتحكم النفط الخليجي أكثر فأكثر وبدأت السعودية وأخواتها في التوسع نفوذا في بعض البلدان على حساب المد الناصري واليساري الذي تراجع بفعل عوامل كثيرة ذكرنا بعضا منها وتوالت الضربات التي كانت تتلقاها هذه القوى وعززها كذلك تفكك الاتحاد السوفيتي ، ثم أتى الدور بعد ذلك على قوى إسلامية تنامى نفوذها وتواجدها في المجتمع العربي والحياة السياسية والاجتماعية العربية وهو ما مثل مزيدا من التراجع القومي واليساري الذي لم يكن قد استقر بنفوذ أصلاً في هذه المجتمعات عدى فترات ازدهار محدودة رغم هالة الخطاب الإعلامي الذي تبنته القوى القومية واليسارية والمتمثل في مقارعة الغزاة والمحتلين وهو الأمر الذي يتواءم مع المزاج العربي العام إلا أن الحملات الإعلامية المضادة لهذا التيار قد أسهمت على فترات في تشويه هذه القوى وتنفير المجتمع منها وتشويهها واتهامها بالإلحاد وغير ذلك.

أحزاب كرتونية
تلاشت أحزاب وتيارات اليسار والقومية أكثر فأكثر عقب اغتيال الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي وبقي من بقي من هؤلاء على الساحة السياسية العربية على هيئة أحزاب ومسميات لكنها ظلت طيلت عقود من الزمن مجرد أحزاب وحركات دونما ثأثير يذكر وتراجعت شعبيتها وحواضنها بشكل كبير جدا وتحولت معظم هذه القوى إلى مجرد شعارات وخطب تبكي المجد المفقود وتدغدغ عواطف من تبقى من حشود حولها لكنها تنال في الوقت ذات ما تنال من التعرية والهجمات الإعلامية من وسائل إعلام وجهات نافذة ومسيطرة على المشهد السياسي اليمني والعربي سواء حاكمة أو حتى من قوى المعارضة التي هي في كل الأحوال على النقيض من قوى اليسار والقومية ، وظلت هذه القوى تائهة بلا هدف ولا مشروع سياسي ولا قوة شعبية فاعلة ما دفعها على فترات عديدة للدخول في تحالفات مع السلطات الحاكمة تارة أو مع أحزاب المعارضة بما فيها الإسلامية تارة أخرى ، فضلا عن تعرضها لحملات تفريخ وتقسيم قادتها السلطات الرسمية في عدد من البلدان العربية وتحويلها إلى موال ومعارض كما هو الحال مع حزب البعث وكذلك الحزب الناصري في اليمن وفي العديد من البلدان حتى فقدت تأثيرها بشكل شبه نهائي وتجلى ذلك عند كل انتخابات من أي نوع كان في أي بلد عربي.

مزيد من الانكشاف
فقدت تلك القوى حضورها بشكل كبير مع تماهيها الواضح مع مشاريع ودول كانت تعتبرها رجعية ومتآمرة عميلة للغرب والمحتلين حسب ما كانت تطرح هذه التيارات على مدى العقود الماضية وتناقضت مع نفسها ومع خطابها التاريخي أكثر من مرة خصوصا حينما سيطرت واحتوت دول كالسعودية هذه الأحزاب وشخصيات ذات توجهات يسارية وقومية وطوعتها بالمال حتى أصبحت أبواقاً للرياض كما لو أنها قناتي العربية والحدث السعوديتين اليوم ونخص بالذكر هنا أحزابا من مصر واليمن من ذوات التوجه القومي واليساري ، إضافة إلى شخصيات عربية لا تمتلك أو لا تنتمي إلى أحزاب لكنها ذات توجهات يسارية وقومية وشيوعية رضخ كثير منها للمغريات وتخلت عن خطابات القومية والمزايدة والعنتريات لصالح النفط ومالت كل الميل نحو المال وأصحاب المال وكانت الفاضحة الأكبر قضايا الأمة القومية والمصيرية التي لطالما تغنت بها هذه القوى والشخصيات العربية وادعت تبنيها وتمثيلها وحمل رأيتها وشددت من حين لآخر على الكفاح المسلح وانتزاع الحقوق والأرض بالقوة بعيدا عن أمنيات السلام الكاذبة ، حتى أتت معركة طوفان الأقصى والسابع من أكتوبر ومثلت الانكشاف الكبير لقوى اليسار والقومية العربية والفضيحة الأكبر لشعاراتها الرنانة والجوفاء بعد تبنيها لسياسات محايدة أو معادية لقوى المقاومة الفلسطينية والعربية في المعركة الأكبر في تاريخ مواجهة ومقاومة كيان الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسه على أرض مسروقة حتى تأكد للجميع كذب الشعارات والتهريج التاريخي لأحزاب وقوى اليسار والقومية العربية وفضحتهم غزة على الملاء وأمام الجميع .

تضامنات زيف وغياب عند الصعاب
في اليمن على سبيل المثال وبين الفينة والأخرى يقود أحمد سيف حاشد وعبدالوهاب قطران ومعهم مجموعة ممن يسمون أنفسهم حقوقيين معظمهم ممن يتوشحون أثواب الكفاح والنضال في سبيل الحقوق والحريات وممن يتبنون توجهات وأفكار يسارية وشيوعية ، جميعهم قادوا وانخرطوا في حملات تضامنية من أجل ربطات البواط وعارضات الأزياء وكثير من القضايا التي يعتبرونها حقوقية وظلوا يدينون القمع بحق هذا أو ذاك والاعتقال لهذا أو إخفاء ذاك .. لكن ما أن أتى الطوفان وبدأت المعركة التي كانوا يطالبون بها طيلة سنوات خلت حتى بدأ حاشد ورفاقه في الانصرف عن القضية الفلسطينية من الأساس وغابت الفزعات وسلسلة التضامنات بل أن بعضا منهم سخروا من كل من تضامن أو ناصر أو آزر القضية وقوى المقاومة الفلسطينية ، كذلك الحال مع قوى يسارية وناصرية وقومية في مصر والسودان وتونس وسوريا وغيرها ممن غاب صوتها وصمتت حين كان لا ينبغي لها الصمت ولم يتوقف الأمر عند الصمت بل أن بعض منهم إلى جانب أصوات عربية أخرى من خارج هذه التيارات قد دأبوا على التشكيك في مقدرة المقاومة على الصمود منذ اليوم الأول لمعركة الطوفان وهو ما نفاه الواقع الميداني بعد مرور عامين من الصمود في وجه أعتى ترسانة عسكرية في التاريخ ففُضحوا جميعا وسقطت شعاراتهم الخاوية التي لطالما أدوشونا بها على مدى أكثر من عشرة عقود ماضية.

غزة تسقط الأقنعة الزائفة والشعارات الخاوية
ويوما بعد آخر ظلت تترسخ قناعة الشارع العربي حول حقيقة هذه الأطراف وكمية التحولات التي طرأت على مسيرتها السياسية وأفكارها ومبادئها المعلنة منذ زمن بعيد وكشفت الأحداث الأخيرة الكثير عن هذا الأمر إذ غاب تماما تفاعل كل هذه القوى والشخصيات مع مظلومية الشعب الفلسطيني وحقه في العيش الكريم بعيدا عن طغيان المحتل وجرائمه وحقه كذلك في مقاومة ذلك الاحتلال الذي يمعن في استهداف الشعب الفلسطيني بصرف النظر عن أحياء المقاومة والكفاح المسلح من عدمه وما الضفة الغربية المسالمة وما تتعرض له كل يوم عنا ببعيد لكي لا يتعلق البعض بشماعة التقدير الخاطئ والمتمثل في أن المقاومة هي من بادرت بهجمات السابع من أكتوبر وهي رواية الاحتلال بالمناسبة والتي يرددها كذلك عرب التخاذل والانبطاح كل يوم ، وأمام غياب كل هذه الدوشة التاريخية وغياب التشدق القومي واليساري بقضايا الأمة المصيرية صعدت قوى عربية جديدة وتحملت المسؤولية وناصرت وآزرت وكانت عند مستوى هذه المسؤولية وقدمت كل التضحيات وكل ما تمتلك من إمكانيات إسنادا لغزة.


طباعة  

مواضيع ذات صلة