الحدود الدامية والحملات الإعلامية المغرضة: تفاصيل جرائم القتل العشوائي السعودي للمهاجرين الأفارقة
على امتداد الشريط الحدودي الجبلي بين صعدة اليمنية وجيزان، تتراصف صفوف من القبور الطازجة كأنها حبات مسبحة عملاقة ممتدة إلى الأفق. لا شواهد رسمية، لا أسماء محفورة، فقط أكوام تراب صغيرة تتكدس بجانب بعضها في تناسق مخيف يذكر بصفوف الجنود في استعراض عسكري.

منذ تسع سنوات، وهذه الصورة تتكرر يوميًا كجزء من روتين قاسٍ يجمع بين القتل العشوائي والتغطية الإعلامية الممنهجة. كل طلقة، كل قذيفة، كل صاروخ يُطلق من الجانب السعودي يُضيف قبرًا جديدًا إلى هذه السلسلة الطويلة، التي أصبحت شاهداً صامتاً على مأساة إنسانية مستمرة.
تقرير: براق المنبهي
لكن الجريمة لا تتوقف عند حدود القتل المباشر. فبينما يُدفن المهاجر الأفريقي في قبر مجهول تحت الأرض، يُستخدم اسمه وصورته في حملة إعلامية منظمة تهدف إلى تحويله من ضحية بريئة إلى تهديد أمني متعمد. هذا التقرير، الذي يعتمد على تحقيقات ميدانية وشهادات مباشرة، يكشف كيف تمنح السعودية "ضوءًا أخضر" لعصابات مسلحة من المهاجرين داخل أراضيها، ثم تُطلق حملات إعلامية تتهم اليمن بـ"تجنيدهم" كأتباع أو مقاتلين.
وفقاً للإحصاءات المتاحة، قتل مئات المهاجرين الإثيوبيين على يد حراس الحدود السعوديين بين مارس 2022 ويونيو 2023 وحدها، مع استخدام أسلحة ثقيلة مثل المدافع الرشاشة والقذائف المتفجرة، مما يشير إلى نمط ممنهج من الانتهاكات قد يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
الرحلة التي تبدأ بالأمل وتنتهي بالرصاص
تبدأ الحكاية في قرى إثيوبيا النائية أو مخيمات الصومال المحترقة، حيث يجمع شاب في العشرينيات من عمره 500 دولار من أهله، يبيع ماشيته، يودّع أمه، ويصعد إلى قارب متهالك في ميناء بوساسو أو أي ميناء صغير آخر على ساحل القرن الأفريقي. الوجهة المنشودة هي السعودية، أرض الفرص الاقتصادية التي تبدو كحلم بعيد المنال. الوعد الذي يُغريهم هو عمل في مزارع الجنوب أو بناء في الرياض، حيث يمكن أن يرسلون تحويلات مالية تعيل عائلاتهم المعوزة. وفقاً للتقديرات، يخاطر كل عام ما بين 50,000 إلى 150,000 مهاجر، معظمهم من الإثيوبيين والصوماليين، بحياتهم عبر هذا الطريق الشرقي، الذي يُعد أحد أخطر مسارات الهجرة في العالم.
لكن الواقع يبدأ بالكذب منذ اللحظة الأولى. عندما يصل القارب إلى الساحل اليمني بعد رحلة تستغرق ساعات أو أيام في ظروف قاسية، يُجبر المهاجر على دفع مئات الدولارات إضافية لمهرب محلي في المنطقة. ثم يُنقل في شاحنة مكشوفة تحت الشمس الحارقة إلى "إيواءت"، وهي أحواش انتقالية مؤقتة في الحدود اليمنية . هناك، يقضي المهاجرون أيامًا أو أسابيع في انتظار الفرصة المناسبة للعبور، محاطين بقصص رعب عن الذين سبقوهم. في إحدى الليالي السوداء، يُصحبه دليل إفريقي ويسمى مهرب أو معدي إلى سفوح جبال في قطاع الدائر أو العارضة، حيث يُطلب منه السير في صف طويل مع عشرات الآخرين. فجأة، تنطلق نيران كثيفة من الجانب السعودي الآخر دون تحذير أو إنذار. الرصاص يخترق الظلام، والأجساد تسقط كأوراقٍ يابسة. من نجا، يعود جريحًا إلى الجانب اليمني، بينما يُدفن القتلى في قبور سريعة. وفقاً للإحصاءات، بلغ عدد القتلى في حوادث عبور مشابهة مئات الأشخاص ، مع تسجيل حوادث غرق في البحر الأحمر أسفرت عن مقتل 49 مهاجرًا في يونيو 2024، و76 آخرين في أغسطس 2025، إلى جانب عشرات الإصابات.
الضوء الأخضر.. كيف تُسلّح السعودية "المتقطعين"؟
لكن القصة لا تنتهي بالموت على الحدود داخل الأراضي السعودية، تبرز ظاهرة غريبة ومقلقة مجموعات من المهاجرين الأفارقة المسلحين يتحركون بحرية نسبية في مناطق نائية مثل "العارضة" "ودفا" وغيرها من المناطق. هؤلاء "المتقطعين"، كما يُسمون محليًا، يحملون بنادق كلاشينكوف وأسلحة خفيفة أخرى، يقيمون نقاط تفتيش مؤقتة، يفرضون "ضرائب" على المهربين اليمنيين الذين يعبرون الحدود، ويسرقون البضائع مثل القات أو السلع الأخرى. عددهم غير محدد بدقة، لكنهم يشكلون مجموعات تصل إلى عشرات في كل منطقة، ويُقدر أن عددهم الإجمالي يصل إلى مئات في المناطق الحدودية.
كيف وصلوا إلى هناك؟ وكيف يحصلون على السلاح دون تدخل؟ الإجابة تكمن في ما يُعرف بـ"الصفقة الصامتة" أو "الضوء الأخضر". حراس الحدود السعوديون لا يعتقلونهم بشكل منتظم، بل في بعض الحالات، يُسمح لهم بالمرور عبر نقاط التفتيش دون تفتيش دقيق. السلاح يأتي من مخازن مهجورة أو صفقات مع تجار محليين، أو حتى من مصادر غير معلنة. الهدف الظاهر هو خلق فوضى على الجانب اليمني، ثم تصوير هذه الفوضى كدليل على "عدم سيطرة صنعاء" أو "دعم اليمن للعناصر الإجرامية". أحد المهربين اليمنيين الذين التقيناهم في سوق الملحة الحدودي يروي تجربته: "في إحدى الليالي في شهر أكتوبر، أوقفتنا مجموعة من الأفارقة المسلحين داخل الأراضي السعودية وعددهم ستة إشخاص يحملون كل شخص كلاشينكوف. طلبوا 1000 ريال سعودي لكل كرتون سجارة أو يتم نزعها بالقوة. عندما رفضنا، أطلقوا النار في الهواء. بعد ساعة، رجع المهربين مرّت دورية سعودية وتم قبضهم تحدثوا مع الضابط السعودي في حرس الحدود بالحادثة.. لم يفعل شيئًا. تم تحميل اليمنيين في الطقم للسجن ومضئ وكأن شيئًا لم يحدث.
هذا التغاضي ليس مصادفة، بل جزء من نمط أوسع يسمح لهذه المجموعات بالبقاء، مما يؤدي إلى زيادة التوترات ويجعل الحدود منطقة خطر دائم. وفقاً للإحصاءات، تم تسجيل عشرات الحوادث المتعلقة بهذه المجموعات في السنوات الأخيرة، مع خسائر اقتصادية تصل مئات الآلاف من الريال السعودي للتجار اليمنيين.
الحملة الإعلامية.. من ضحية إلى مجرم
في اليوم التالي لحادثة كهذه، تظهر فيديوهات على قنوات سعودية ومنصات إعلامية تابعة لما يسمى بـ"الشرعية" في عدن المحتلة أو غيرها. تظهر مجموعات من الأفارقة مع مذيع يزعم أن هؤلاء "تم تدريبهم في معسكرات صعدة" أو "يتلقون دعمًا من صنعاء، والفيديو عادةً ما يكون لقطات قديمة، لمجموعات مسلحة تتلقى تدريبات في قوات السلام في إقليم تيغراي الإثيوبي.
الفيديوهات تُعاد تدويرها كلما احتاج النظام السعودي إلى ذريعة لتبرير قصف جديد أو تصعيد إعلامي، خاصة في أوقات التوتر السياسي. هذه الحملات ليست عفوية؛ إنها جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تشويه صورة اليمن، وتحويل المهاجرين من ضحايا إلى أدوات في لعبة الدعاية. وفقاً للإحصاءات، بلغ عدد الفيديوهات والتقارير المشابهة عشرات في السنة الحالية، مما يعكس حملة ممنهجة.
صعدة.. الإدارة الإنسانية في قلب النار
في الجانب اليمني من الحدود، تختلف الصورة جذريًا عن الرواية الإعلامية المغرضة. في أسواق مثل الرقو أو الملحة، يُمنع أي مهاجر من حمل السلاح أو تشكيل مجموعات. من يُضبط في مخالفة، يُسلم فورًا إلى الجهات الأمنية المختصة للتحقيق والترحيل. الإيواء المتاح هو مؤقت ومراقب بدقة: كل مهاجر يُسجل اسمه وتفاصيله،ثم يُرحّل خلال أيام قليلة عبر مسارات برية آمنة إلى نقاط الإعادة الطوعية. لا خيام دائمة تُبنى، ولا تجمعات عشوائية تُسمح، ولا تهريب منظم يُتغاضى عنه. الجهود تركز على الحفاظ على التوازن بين الرعاية الإنسانية والأمن المحلي، مع ترحيل آلاف المهاجرين سنويًا دون حوادث. أحد المسؤولين الأمنيين في صعدة الذي التقيناه يوضح: "نحن لا نريد أن نكون ممرًا للفوضى أو مصدرًا للتهديدات. كل من يدخل، نعرف وجهته وخلفيته. وكل من يخالف القوانين، نُرحله فورًا. هذا واجبنا تجاه شعبنا وتجاه الإنسانية التي نلتزم بها رغم الظروف الصعبة التي يمر بها اليمن من حصار من قبل النظام السعودي، في الواقع، سجلت صعدة ترحيل مئات المهاجرين في الأشهر الأخيرة، مع إعادة 274 مهاجرًا قسريًا حتى يونيو 2025.
الجنوب المحتل.. بوابة الضرائب والفوضى
لكن المشكلة لا تبدأ في صعدة أو على الحدود الشمالية. في مناطق مثل لحج وحضرموت والمخا، تُدار شبكات تهريب منظمة تابعة لحكومة المرتزقة في عدن أو الجهات المرتبطة بها. المهاجر الذي يصل إلى الساحل الجنوبي يدفع 300 دولار عند الوصول، ثم 200 دولار أخرى في نقاط تفتيش تابعة لـ"القوات المشتركة" أو غيرها. هذه الضرائب غير الرسمية تحول المهاجرين إلى مصدر دخل، ثم يُدفع أكبر عدد ممكن منهم شمالًا نحو صعدة، ليصبحوا "عبئًا على صنعاء" ويُستخدموا كأداة في الصراع السياسي. وفقاً للإحصاءات، دخل أكثر من 24,000 مهاجرًا اليمن في أكتوبر ونوفمبر من العام الماضي، معظمها من خلال هذه المسارات الجنوبية، مما يفاقم الضغط على الشمال.
السجون.. المحطة الأخيرة للمعاناة
من ينجح في العبور إلى السعودية، يواجه مصيرًا أسوأ في كثير من الأحيان. في سجون جيزان وغيرها من المراكز الحدودية، يُحتجز المهاجرون في زنازين مكتظة تصل إلى 70 شخصًا في غرفة لا تتسع لأكثر من 20. لا طعام كافٍ، لا دواء للمرضى، لا زيارة من أحد. يبقون شهورًا طويلة في ظروف غير إنسانية، حيث يموت واحد أو أكثر بسبب الجوع أو الأمراض. الترحيل يتم في النهاية على دفعات بطيئة عبر الخطوط الجوية، رغم توفر الطائرات التي يمكن أن تسرع العملية. أحد الناجين الذين التقيناهم بعد عودته يروي تجربته المرعبة،كنا 70 شخصًا في غرفة لا تتسع لـ20. كل يوم الجوع ينهكنى والإرهاق. لم نرَ الشمس لأربعة أشهر كاملة، وكان التعذيب النفسي أسوأ من الجسدي.وفقاً للإحصاءات، تم تسجيل آلاف الحالات المشابهة منذ ، مع ترحيل مئات المهاجرين سنويًا بعد فترات احتجاز طويلة.
الوجه الآخر لـ"الحبوش".. معاناة وإجرام
صحيح أن المهاجرين الأفارقة ضحايا في هذه المأساة، لكن هذا لا يعني أنهم أبرياء تمامًا في كل الجوانب. في اليمن، يُرى الكثير منهم كمساكين يبحثون عن الرزق، يعملون في حمل البضائع أو الأعمال العادية مقابل أجور زهيدة. لكن في المناطق الحدودية، وخاصة داخل السعودية أو في المناطق المهجورة، يتحول بعضهم إلى تهديد حقيقي. هم من يشلون رزق اليمنيين، يقطعون الطرق، يفرضون ضرائب، ويسرقون البضائع. في الأسواق الحدودية، يُشكون السكان المحليون من أن هؤلاء "الحبوش" يصنعون الخمور المحلية في الوديان، يبيعونها سرًا، ويسببون مشاكل اجتماعية. أسوأ من ذلك، في المناطق المهجورة أو الجبلية النائية، إذا حصل أحدهم على شخص يمني وحيدًا، قد يقتله دون تردد لسرقة ما يحمله، سواء كان نقودًا أو هاتفًا أو حتى حذاءً. وفقاً لشهادات محلية، سجلت عشرات الحوادث من هذا النوع في السنوات الأخيرة، حيث يُقتل يمنيون في كمين أو يُسرقون تمامًا، مما يجعل السكان يخشون التنقل ليلاً أو في المناطق النائية. هذا السلوك لا يبرر الانتهاكات السعودية، لكنه يُظهر أن المعاناة لا تُعفي من المسؤولية، وأن بعض هؤلاء المهاجرين يتحولون إلى مجرمين يضرون بالمجتمع المحلي الذي يستضيفهم مؤقتًا.
الخاتمة: الحقيقة تحت الرمال
المهاجر الأفريقي، المعروف محليًا بـ"الحبوش"، ليس بطلًا في قصة بطولية ولا مجرمًا في مؤامرة دولية. هو ضحية نظامين مترابطين: نظام سعودي يقتل ويُسلح ويُصور الضحايا كتهديدات، ونظام جنوبي يفرض ضرائب ويدفع بالفوضى شمالًا لأغراض سياسية. أما صعدة، فتبقى الجدار الوحيد الذي يمنع تحول هذه المأساة إلى كارثة أكبر، من خلال إدارة إنسانية وأمنية متوازنة.
القبور على الحدود ليست مجرد أرقام في تقارير، بل شهادة حية على جريمة مستمرة منذ سنوات. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه: متى ستُحاسب السعودية على دماء هؤلاء الذين دفنتهم تحت رمالها، ومتى ستتوقف الحملات الإعلامية عن تحويل الضحايا إلى أعداء؟





