وقائع من مفاوضاتٍ تحت النار في مسقط

لا تشي جولة التفاوُض المباشرة الأخيرة، بين حركة «أنصار الله» من جهة والجانب الأميركي من جهة أخرى، بأيّ تبدُّل في رؤية واشنطن لملفّ الحرب على اليمن.

وقائع من مفاوضاتٍ تحت النار في مسقط

 

ابراهيم الأمين - صحيفة الأخبار

ترغيب وترهيب ومحاولات ابتزاز بالملفّ الإنساني تستهدف جميعها إخضاع الحركة للمطالب السعودية، وإجبارها على رفع الراية البيضاء من دون أيّ مقابل. استسلامٌ لا ترى قيادة صنعاء أدنى موجب له بعد ستّ سنوات من الصمود والقتال الأسطوري الذي قلَب المعادلة لصالحها بالكامل. ولذا، فقد كان موقفها واضحاً على طاولة الوسيط العُماني: لا مساومة على حقوق اليمنيين، لا نزول عند رغبات واشنطن، ولا عودة إلى التفاوض قبل وقف العدوان وفكّ الحصار. وهما المطلبان الرئيسان اللذان جاءت المبادرة السعودية المتجدّدة، المطروحة بالأمس، لتستمرّ في المراوغة حولهما، بعيداً من أيّ إعلان جادّ وحقيقي، وفق ما رأته «أنصار الله»

منذ ثلاث سنوات، تلمّست الجهات الدولية المتورّطة في الحرب على اليمن، فشل المهمّة. لم يكن أحد ليتوقَّع وقفاً فورياً للحرب. لكن الجانبَين الأميركي والبريطاني فكّرا مراراً في وساطات تهدف إلى تحصيل مطالب السعودية من خلال المفاوضات. وهو ما ظهر في كلّ المبادرات والاتصالات، بما فيها تلك التي قادها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، مارتن غريفيث. لم يكن «أنصار الله» في وارد التنازُل أصلاً. وهذا ما جلّته تطوُّرات السنوات التالية. لكن صنعاء لم تكن لتُقفل الباب أمام أيّ نوع من التواصُل، لن يُؤثّر على استراتيجيّتها في الدفاع والانتقال إلى مرحلة الهجوم. وهو ما فتح الباب أمام مستويات مختلفة من اللقاءات في أكثر من مكان في العالم. لكن المشترك بين كلّ ما حصل، هو أن الغربيين، على اختلاف عواصمهم وطرُق تحدّثهم، إنما نطقوا بالمطالب السعودية، وما كان بالإمكان القبول بأيٍّ من شروطهم.

جاء التطوُّر في قدرات «أنصار الله» الصاروخية، والوصول إلى أبعد النقاط داخل السعودية والإمارات، ليفتحا الباب أمام مستوى جديد من الاتصالات. وهنا، أَدخل الغربيون الجانب الإنساني بصورة مباشرة، خصوصاً أنهم لمسوا تطوُّراً كبيراً جدّاً في قدرات اليمنيين على مواجهة الحصار العسكري، وقدرتهم على بناء منظومة فعّالة من الصواريخ بعيدة المدى، إلى جانب الطائرات المُسيَّرة المفخّخة، والزوارق المفخّخة أيضاً، عدا عن التطوُّر اللافت في قدراتهم على إدارة المواجهة في الميدان. كان «أنصار الله» يستغلّون كلّ فرصة لأجل تخفيف الضغط عن المدنيين، ولذا وافقوا على سلسلة من المبادرات التي أدت إلى وقف قصف المناطق المدنية مقابل وقف قصف العمق السعودي. لكن مسألة الحصار ظلّت هي الأساس، وإلى جانبها ملفّ الأسرى والمعتقلين لدى الطرفين.

بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإعلان الإدارة الجديدة موقفها من ضرورة وقف الحرب، وإلغاء قرار الرئيس السابق، دونالد ترامب، تصنيف «أنصار الله» منظّمة «إرهابية»، عادت الاتصالات. وكما في كل مرّة، طلب الأميركيون والبريطانيون من السلطات في سلطنة عُمان ترتيب المناخ لعقد جلسات تفاوض مباشرة مع «أنصار الله» بغية التوصُّل إلى اتفاق. وحصل، قبل ثلاثة أسابيع، أن اتُّفق على لقاء يُعقد في مسقط، لكنه يقتصر على الجانبين الأميركي واليمني، ويحضره عن مسقط ممثّلون عن السلطان، في مقابل رفْض «أنصار الله» مشاركة أيّ جهة أخرى في الاجتماع، سواء كانت يمنية أو سعودية أو حتى إماراتية.
ومع إصرار الجانب الأميركي على توسيع دائرة المشاركين في الحوارات، أبلغهم ممثّل «أنصار الله» أن الاجتماع هو بين أطراف الحرب، وليس بين طرف ووسطاء، وأن الحركة تتصرّف مع الوفد الأميركي على أنه ممثّل لطرف أساسي متورّط في الحرب ومسؤول عن إطلاقها وعن استمرارها، وليس كوسيط، وأنه في حال قرّرت السعودية والإمارات المشاركة في الاجتماعات، فسوف يتمّ ذلك على أساس أنهما من الأطراف المشارِكة في الحرب، وأن هذه الاجتماعات تستهدف وقف الحرب، ولا علاقة لها بأيّ ترتيبات يمنية داخلية، وأن صنعاء ترفض أن يكون هناك غير الأمم المتحدة في أيّ لقاءات يمنية - يمنية، وهذا لن يحصل قبل توقُّف الحرب بصورة نهائية.
قبل أسبوعين، تمّ ترتيب الاجتماع في قاعة حضرها محمد عبد السلام ومرافق له عن الجانب اليمني، ومسؤولان من ديوان سلطان عمان، وثلاثة مسؤولين أميركيين، بينهم مَن يُمثّل إدارة البيت الأبيض، وآخر من الجيش، وثالث يُمثّل الجانب الأمني الأميركي. ولم يشارك أحد آخر، بينما كانت أجهزة المخابرات العالمية تنتشر في كلّ ما يحيط بقاعة الاجتماع.

مكانك رواح

كان محمد عبد السلام مرتاحاً جدّاً. تجربته في الاتصالات والتفاوُض مع الغربيين ومع العرب ومع الأمميين كسرت عنده أيّ حاجز نفسي إزاء قول ما يجب أن يُقال بوضوح وحزم. لكنه دخل القاعة مزوّداً بتعليمات واضحة صادرة مباشرة عن قائد «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي: «كن واضحاً، ومباشراً، وحازماً، وحاسماً في أننا لسنا في وضع يُلزمنا التنازل عن شيء، لا بالشكل ولا بالمضمون. وعليك أن تتصرّف على أنك تقف في وجه عدو مسؤول عن كلّ ما يجري في حق بلدك وشعبك. وبيده قرار بدء الحرب وبيده قرار توقُّفها».
الوسيط العماني كان يتهيّب الموقف، لأنه صار يعرف اليمنيين جيداً. وهو يعرف، من جهة ثانية، الوضع المحرج والصعب الذي يعيشه الطرفان السعودي والإماراتي. كذلك، يعي أن المفاوض الأميركي ليس لديه الكثير. كانت يد الوسيط العماني على قلبه خشية حصول خطأ يؤدي إلى فشل الاجتماع سريعاً. ويبدو أنه نصح الأميركيين ببعض التواضُع، لكن وفد واشنطن تصرّف على ما تَعوّد أن يتصرّف عليه. فبادر إلى تقديم ملاحظات عامة أساسها النيّة في وقف الحرب، إلّا أنه سرعان ما دخل بازار المقايضات، وأوّل ما جرّب الحصول على ثمن مقابله هو محاولة تضخيم قرار إدارة الرئيس جو بايدن رفع اسم «أنصار الله» عن لائحة المنظّمات «الإرهابية». فما كان من عبد السلام إلّا أن عاجله بأن هذا قرار لا يهمّ اليمنيين، وليس له معنى في هذه الجلسة، ولا يُعوَّل عليه، وهو خطأ ارتكبه الأميركيون وعادوا عنه، وهذا أمر يخصّهم. أُسقط في يد الأميركيين، فانتقلوا سريعاً إلى البنود العملانية. وفي هذه اللحظة، ظهروا أنهم في مهمة ضغط لا في مهمة التوصُّل إلى حلّ، لأن ما عرضوه خلال معظم الوقت لم يكن سوى المطالب السعودية - الإماراتية - البريطانية - الأميركية التي انطلقت يومَ بدَأ العدوان.
في المحادثات، ظهَر أن الجانب الأميركي لديه 12 بنداً، يريد الوصول إلى نتائج حولها. ولكن نقطة البداية كانت في ما خص الواقع الصعب الذي يتشكّل في الميدان نتيجة مباشرة الجيش اليمني و«اللجان الشعبية» معركة استرداد محافظة مأرب. ولمّا حاول الأميركيون اعتبار ما يجري في مأرب تصعيداً من خارج المناخات، ردّ عبد السلام بحزم: المعركة لم تتوقّف أصلاً، ومأرب هي أصلاً محافظة شمالية، ثمّ تَحوّلت مع الوقت إلى مركز العمليات الرئيس الذي يهدّد صنعاء، ومنها تنطلق العمليات الكبيرة باتجاه الشمال، وهي كانت على الدوام ساحة مواجهات مفتوحة، وقرار استعادتها لا رجعة عنه، ووقف القتال فيها جزء من وقف الحرب كلّها، ولا وقف إطلاق نار خاصّاً بمأرب وحدها مهما كان الثمن المقابل، وقرار صنعاء حاسم في استعادتها طالما أن الحرب قائمة، ولدى صنعاء كلّ الوسائل العسكرية والسياسية والإنسانية لإنجاح مهمّتها بأقلّ الخسائر الممكنة بين المدنيين، وهي تعمل على التفاوُض مع جميع أبناء المحافظة وتتوصّل معهم إلى اتفاقات تسمح بإنهاء الحرب سريعاً. أنتم تريدون هدنة خاصة بمأرب على طريقة ما تفعلونه في أماكن أخرى من العالم، أنتم تعرضون علينا ما يقوم به الصهاينة في فلسطين. تريدون منّا وقف معركة استعادة حقنا، ثمّ تريدون منّا التفاوض لاحقاً على حقوقنا، هل تعتقدون أننا في وضع نقبل فيه بذلك، نحن مستعدّون ومستمرّون في المعركة، وسوف نستعيد كامل حقوقنا في كلّ محافظة مأرب، وسترون النتائج سريعاً. عملياً، أخرج عبد السلام ملفّ مأرب من البازار، خصوصاً أن الجانب الأميركي حاول إغراء صنعاء بمبادرات ذات طابع إنساني إن جرى وقف الهجوم على مأرب. وفي هذه النقطة، كان على عبد السلام العودة إلى توضيح الأمور بصورة لا تقبل الجدل اللاحق.

«هناك أمور لا يمكن ربطها بأيّ تفاوُض جانبي، وهي خطوات يجب أن تتمّ فوراً ومن دون أيّ نقاش جانبي، من وقف فوري لجميع العمليات العسكرية في إطار إعلان شامل لوقف الحرب كلّياً على اليمن، وأن يصار فوراً إلى رفع الحصار عن المطار وعن الموانئ والمنافذ البحرية والبرّية، وبدء عملية إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين، وتوفير حق معالجة الجرحى داخل أو خارج اليمن، وأن يصار إلى وضع ترتيب سريع لإدارة الثروات الوطنية في البلاد، لناحية حصّة الشمال من النفط الموجود في مناطق الجنوب، وأن يبادر المصرف المركزي في عدن إلى صرف رواتب جميع العاملين في كلّ إدارات الدولة في المحافظات الشمالية، وأن يتمّ توزيع النسب على أساس عدد السكّان، وعليه يكون لمواطني المحافظات الشمالية ثمانون في المئة من الثروات ربطاً بكونهم يُمثّلون النسبة نفسها من عدد السكّان. قال عبد السلام إن هذه البنود غير قابلة للتفاوض، ولن يكون هناك أيّ بحث في أمور أخرى، سياسية أو ميدانية أو دستورية، قبل تحقيق هذه المطالب، وخلاف ذلك يعني أنكم كأميركيين لا تحملون أيّ جديد، وتريدون الاستمرار في الحرب، ونحن مستعدّون لمواصلة الحرب وتصعيدها. أمّا في شأن الضربات التي تُوجَّه إلى العمق السعودي، فقال عبد السلام إنها ردٌّ أقلّ من تناسبي مع أشكال العدوان المفتوح من جانب السعوديين والإماراتيين والأميركيين، وهي عمليات مرشَّحة لأن تتصاعد طالما لم يتوقّف العدوان، وهو أمر غير قابل للمقايضة.

للحظة، أُسقط بيد الأميركيين، فحاولوا العودة إلى طريقتهم المعتادة في الترهيب والترغيب، وطلبوا مواصلة إبداء رأيهم في أمور أخرى، وباشروا في طرح ما يرونه الأهمّ، وهو ما أجبر عبد السلام أكثر من مرّة على أن يقاطعهم ويؤكد لهم: أنتم هنا تكرّرون المطالب السعودية، ولا يبدو أن تغييراً حصل عندكم، السياسة نفسها ولو بوجوه جديدة. في البنود الأخرى التي يهتمّ بها الأميركيون ومعهم السعودية والإمارات وبريطانيا وإسرائيل، ترد العناوين التالية، والتي يمكن تصوُّر الموقف المسبق منها:

1- إعادة تنظيم الجيش والقوى الأمنية والعسكرية في البلاد، ودعم مجاميع القوى اليمنية المسلحة ضمن هذه القوات، على أن يشارك «أنصار الله» من خلال العناصر فقط، ولا يكون لهم حق تشكيل قيادة هذا الجيش. «أنصار الله»: مرفوض.

2- إعادة تشكيل الحكم في اليمن بطريقة تجعل «أنصار الله» حزباً سياسياً له حجمه، كما حزب «المؤتمر» أو حزب «الإصلاح» أو القوى الأخرى، وليس له أيّ دخل في القرارات الاستراتيجية التي تخصّ السياسة الخارجية والدفاعية، وأن لا تتعدّى حصّته في كامل مؤسّسات الدولية المدنية، من مجلس رئاسة إلى حكومة إلى مجلس نيابي، خُمس الحصص الإجمالية. «أنصار الله»: مرفوض.

3- يقع اليمن بعد توقُّف الحرب تحت وصاية الأمم المتحدة التي تشرف على تقسيم اليمن إلى ستّة أقاليم بين جميع محافظات الجنوب والشمال، وأن يكون هناك نوع من الإدارة المحلية لكلّ إقليم، على أن يكون المشترك هو السياسات المالية والدفاعية والخارجية. «أنصار الله»: مرفوض.

4- يبادر «أنصار الله»، على لسان قياداتهم، إلى التبرُّؤ من العلاقة مع إيران و«حزب الله» اللبناني، وأن يجري ضبط كلّ أنواع التواصل مع إيران، وأن لا يشارك «أنصار الله» في بناء السياسة الخارجية لليمن إلّا من خلال حجم مشاركتهم في مؤسّسات الدولة. «أنصار الله»: مرفوض.

لا واقعية أميركية

على هذا المنوال، واصل الأميركيون التحدُّث، وكأنهم في موقع مَن يملي الشروط. لم يكن عبد السلام يحتاج إلى الكثير من الكلام حول رفض كلّ ما لا يناسب مصالح اليمن، وهو أوجز ما سمعه بأن الجانب الأميركي ليس جدّياً، ولا يحمل جديداً، بل ينقل وجهة نظر أطراف العدوان ويتبنّاها، ولذلك فإنه ليس هناك من داعٍ لمواصلة الحديث على هذا النحو، ومن هنا أبلغ المفاوض الأميركي أنه إذا لم يكن لديك ما تفيد به مهمّة إنهاء الحرب، فلا يجب أن تنتظر منّا معاوَدة الاجتماع. تدخّل الوسيط العُماني لأجل تبريد الأجواء، وقال الأميركيون إنهم سيفكّرون في الأمر جيّداً، لكنّهم طلبوا أن يعقدوا اجتماعاً جديداً بحضور ممثّلين عن السعودية. ردّ «أنصار الله» بأن السعودية تَحضر كطرف أساسي في العدوان، وليس كوسيط مع أيّ جهة يمنية، وأن هدف هذه المفاوضات هو إنهاء الحرب ورفع الحصار والمعاناة، أمّا المسائل اليمنية الداخلية فسوف تتمّ مناقشتها بين اليمنيين أنفسهم ولوحدهم ومن دون مشاركة أحد، ويمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً في الإشراف على عمليات الانتقال إلى وضع جديد بعد توقُّف الحرب.

مفاوضات تحت النار
كانت صنعاء تدرك ما ستؤول إليه الأمور. أصلاً، حصل نقاش كبير داخل القيادة اليمنية حول أصل الاجتماع مع الأميركيين، وخرجت أصوات تقول إنه لا يمكن الجلوس مع قاتل أطفال اليمن ونسائه. وعندما حُسم عقد جلسة التفاوض، كان القرار واضحاً بعدم ربط هذه المفاوضات بكلّ المسارات القائمة عسكرياً أو سياسياً. الذي حصل وثَبّت وجهة نظر صنعاء، أنه وبعد انتهاء الجلسة الأولى، بادرت قوى العدوان إلى رفع مستوى العمليات العسكرية، ليس في جبهة مأرب وحدها، بل في أماكن كثيرة. وتورّط السعوديون مع جماعتهم في حزب «الإصلاح» في محاولة إشعال جبهات أخرى لتخفيف الضغط على مأرب، وفعلوا ذلك في عدّة أماكن بين الجبهة الغربية وتعز، فيما شنّ الطيران المعادي مئات الغارات الإضافية على مواقع مدنية في صنعاء وصعدة إضافة إلى مأرب.

وهو ما جاء الردّ عليه بقرار «أنصار الله» رفْع مستوى الجهوزية والانتقال إلى المرحلة الثانية من العملية العسكرية الواسعة في مأرب، والتي تمّ فيها تحييد بعض المناطق من خلال الاتفاق مع قبائل نافذة، فيما جرى التقدُّم صوب مرتفعات ومساحات قرّبت قوات صنعاء من الحدود الإدارية للمدينة، حتى صار بإمكان مجموعات من مقاتلي «أنصار الله» إرسال صور لمدينة مأرب بوضوح، بينما وقعت مساحات كثيرة تحت نيرانهم المباشرة. في المقابل، تهشّمت نفسية جميع المجموعات المقابِلة، وتحوّلت عمليات الفرار إلى انسحاب جماعيّ لقوات حليفة للرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، كما لم تنفع محاولة الاستجداء بمجموعات سلفية، حتى إن قوات جنوبية كثيرة رفضت المشاركة على رغم كلّ المغريات، وحُجّتها أن الحرب تدور في محافظة شمالية. لكن «أنصار الله» لم تكتفِ بذلك، بل قرّرت رفع مستوى الضربات ضدّ العمق السعودي، ووضْع برنامج لا يزال قيد التنفيذ، يشتمل على ضرب أهداف مركزيّة عدة، من الرياض نفسها والقصور الملكية ومقرّات عسكرية إلى رأس تنورة والشركات النفطية، مع استمرار الضربات المركزة والموضعية ضدّ أهداف عملياتية في خميس مشيط وجيزان ونجران أو على طول الجبهة الحدودية مع السعودية.
على الأرض، يتّضح، من سياقات كثيرة، أن بمقدور «أنصار الله» حسم المعركة سريعاً في مأرب، والقرار واضح في هذا الاتجاه، لكن تشابُك الوضع الداخلي وعلاقات القبائل في ما بينها، وحرص «أنصار الله» على عدم تدمير مأرب أو سقوط المزيد من الضحايا، يجعلان المعركة تأخذ أشكالاً مختلفة. الذي حصل فعلياً أن الأميركيين، عندما خرجوا من جلسة التفاوض، كانوا يعتقدون أن السقف المرتفع لـ«أنصار الله» إنما لا يعكس حقيقة الوضع. وبعدما تلقّوا تعهُّدات من الجانبَين السعودي والإماراتي ومجموعاتهما على الأرض بأن الوضع سينقلب في مأرب لمصلحة قوى العدوان، قرّروا مغادرة المفاوضات وقالوا للجانب اليمني: نحن سنسافر إلى واشنطن وننتظر اتصالكم. مرّت الأيام الأولى وهم ينتظرون تطوُّرات لمصلحتهم على الأرض، ولكنهم وجدوا أن «أنصار الله» تمكّنوا من صدّ الهجمات الاشغالية واستعادوا كامل السيطرة، بل تقدّموا أكثر في جبهة مأرب نفسها.

أبلغ «أنصار الله» الوسيط العماني بأنهم غير معنيّين بالتواصُل، وليس لديهم ما يضيفونه على ما قالوه، وأنهم حتى لا يرون حاجة إلى استئناف المفاوضات ما لم يكن هناك شيء مختلف من جانب قوى العدوان، ومن جانب الأميركيين على وجه التحديد. وبعد مضيّ عشرة أيام، عاد الوسيط العُماني يطلب موعداً جديداً من «أنصار الله» لاستئناف المفاوضات، وكرّر مطالبة الأميركيين بحضور السعوديين. ردّت صنعاء بأن حضور السعودية مرتبط بإعلانها طرفاً مشاركاً في العدوان وليس مُمثّلاً أو وسيطاً عن أي جهة يمنية، ولا يحقّ لها التحدُّث في أمور اليمن الداخلية، وأن الحوار يجب أن يُركّز على وقف الحرب بصورة كاملة ورفع الحصار قبل الشروع في أيّ نقاش آخر. عاد الأميركيون وأرسلوا إشارات إلى وجود استعداد لخطوات ذات طابع إنساني مِن مِثل تخفيف القيود عن ميناء الحديدة، والسماح بوصول مساعدات اقتصادية، وصرف الرواتب، وفتح مطار صنعاء مع تحديد وجهات السفر منه وإليه. كما أعلنوا استعداد السعودية وحكومة هادي لوقف شامل لإطلاق النار، وأنهم سيرسلون المبعوث الأممي، غريفيث، إلى مأرب من أجل التوصُّل إلى صيغة تُخفّف خسائر فريق العدوان. لكن «أنصار الله» لا يرون من داعٍ لأيّ تنازلات في الشكل قبل المضمون، وهم قرّروا المُضيّ في معركة استرداد مأرب حتى النهاية.


طباعة  

مواضيع ذات صلة