النصـف الآخــر

استشاط غضب زيد وضرب بقبضته اليمنى طاولة الطعام جعلت طقم الكؤوس الزجاجية الموضوعة عليها تهتز وترتطم ببعضها البعض، نصف الشقيق حسين مستمر باستفزازه و إسماعه ما يكره من مُرّ الكلام.

صحيفة اليمن - امل محمد الحداد

النصـف  الآخــر

استشاط غضب زيد وضرب بقبضته اليمنى طاولة الطعام جعلت طقم الكؤوس الزجاجية الموضوعة عليها تهتز وترتطم ببعضها البعض، نصف الشقيق حسين مستمر باستفزازه و إسماعه ما يكره من مُرّ الكلام.

صحيفة اليمن - امل محمد الحداد

حسين: ما بك يا غازل الصوف؟ هل ثبطت همتك؟

زيد: ليس بي شيء يا صاحب الضائعة، إلا أنك أضعت ضائعتك فتبعتك حتى اتبين ما سينتهي إليه ضياعك؟

عض حسين على نواجذه غيضاً، يبدو أن الاستهزاء لن يأتي بغيره مع أنه لم يكن البادىء.

حسين: ظننتك تَتدرب على أفعال الرجال لا أقوال النساء، استدار زيد وقد أحمر وجهه وهو يرى أن أخاه قد أسرف في الإهانة، أثناء استدارته أصابت ذراعه كرسي الطاولة ..آلامته .. لكن تركيزه وغضبه يبحثان عن عقاب لحسين، شدَّ قبضته كأنها تريد البدء في العراك، اكتفى من التناوش بالكلمات، ستندم على قلة احترامك يا زيد، حسين يكلم نفسه

التفت زيد إلى الطاولة فأخذ أحد الكؤوس الزجاجية ثم رماه ناحية أخيٍه حسين، صرخت أخت حسين الشقيقة رقية: آه...ورفعت يديها أمام وجهها تجنباً لشظايا الزجاج التي تطايرت بالقرب منها وشقيقها حسين، خدشت شظية صغيرة كفها الأيمن.

حسين: أجننت؟.. ماذا تظن أنك كنت فاعلاً؟ بغض النظر عني.. على الأقل أنتبه لأختك رقية التي أمامك.

ستندم على تكبرك.. حديث النفس المتواصل لزيد...

سمعت العمة أميمة صوت رقية المرتفع.. فأدركت أن في الطابق الأول شيئاً ما، عسى أن لا يكون شجاراً وأسرعت بالنهوض والنزول إلى الدور الأول.

زيد: المجنون هو أنت لا غيرك.

خرجت وداد أخت زيد الشقيقة ونظرت إلى أخويها المتعاركين فقالت بصوت خفيض : عسى أن يتعلم حسين هذه المرة الأدب! ولم تتجاوز باب غرفها.

الغضب المحتقن بداخل حسين بدأ يتفسخ، تقدم بضع خطوات ناحية أخيه متجاهلاً شظايا الزجاج على الأرض، أمسكت رقية أخيها حسين وقالت: أنتبه.

أخذ الغضب من زيد كل مأخذ فحمل الكرسي وأراد رميه للأمام، فجأة يرى عصى سوداء معقوفة مقابلة له تصد الكرسي، أنه أبي .. ارتبك زيد.. وانتفض قلبه خوفاً ومهابة لمعرفة أبيه حالة الخصام التي وصل إليها مع نصف شقيقه، كما صعق حسين لنفس السبب لم يتوقع أن تتطور هذه المشاحنة الاعتيادية إلى هذا الحد، في نفس الوقت وصلت العمة أميمة إلى الصالون وهي تلاحق أنفاسها وأول ما خشيته ارتفاع الضغط لأخيها عبد الكريم بسبب الانفعال، ارتخت عضلات زيد المتوترة فأنزل الكرسي ونظرته خجله من أبيه.

ما رآه الأب من حالة الشابين أدمى قلبه فسألهما مستنكراً : هل تموت الشجرة بانكسار فرع فيها؟ ما سبب تمايزكما المفرط؟ نصفيكما مختلف ..الأم غير الأم؟ ومذهب غير المذهب؟ لماذا التركيز على التباين؟ ألا يجمعكما إله واحد ونبي واحد ومنهاج مشترك وقبل هذا كله، عالم الانسانية المتكامل، هناك تتابع في تسلم العلوم والأفكار والتجارب، ثم.. ألست أنا بكل حياتي شيئاً مهماً في نفسيكما، ألا تعطيكما معاناة يتمكما معنى مشترك؟ التربة الصالحة للزراعة ..تبذر فيها حبوب متنوعة وغذائها واحد ..ليس هناك زارع يصر على نفس المنتج من هذه البذور، بل تراه يحافظ على التنوع الجميل ،ظننت فيكما التمايز البديع، أفيقا من غيبوبتكما ،أزيلا غشاوة التعصب وأنظرا إلى بلد يعاني من أعراض الحرب، من هدَّ بعض أعمدته وبأي نفسية عليكما أن تعيشا؟.. النصر هدفكما لا الهزيمة؟

ألم أربيكما بنفس القدر؟ ألستما عندي بنفس الأهمية؟ ولديَّ هما الذي اعتمد عليهما وقت ضعفي، فإذا بهما .. يتناطاحان ..تناطح البهائم ..قالها الأب مشمئزاً بعد تردد ..للمرة الأولى يستاء زيد من نفسه وأحرج حسين.. واصل الأب كلامه وهو يُشهد كل من حضر على ما سيقوله: ما الذي أشكل بينكما إلى هذا الحد؟ مرر الأب بعصاه على الزجاج المتناثر على الأرض، صمت لنصف دقيقة ثم وجَّه حديثه إلى ابنه حسين وقد علت نبرة الحزن في صوته: فلتكن لديكما الجرأة  وقولا.. أنت يا حسين أخبرني هل كان (علي كرم الله وجهه) تاجراً محتكراً، ألم تعرف الزهد في سيرته كما عرفت القوة والشجاعة والعدل والحكمة؟ هل تصعب عليه قضية تافهة كالذي بينكما؟ عض حسين شفته ندماً وأطرق نظره إلى الأرض، التفت الأب ناحية الطأش الأصغر زيد وسأله بسخرية متألمة: وأنت يا ابن الحرير والديباج، أين جهاد نفسك المجاور لورعها ؟ أتظن هذا البعض يغلب بعضها الآخر؟.. أخبرني ..غطى زيد وجهه بكلتا يديه استحياءً وتجنباً لمواجهة أبيه، صمت الأب لدقيقة يلملم فيها شتات نفسه ثم واصل بجدية أكثر: لولا الجانب الآخر من العملة لكانت مزورة.. ملغية الصلاحية ..تتجرأن على بعضكما في حياتي فكيف ستكونان بعدي ورمى عصاه بغضب ويأس إلى الأرض، أصدرت صوت قرقعة وقت الارتطام ثم تدحرجت بعيداً، انزعج زيد وتوقع الأسوأ من أبيه.

الأب بأسف وحزن: ليتكما لم تكبرا ..ليتني لم أعش هذا اليوم.. انتظرت بفارغ الصبر والأمل ..بل بشوق وفرط التفاؤل.. لطالما قلت صار للحسين أخ هو زيد، زيادة في الخير ونصرة على الشر، لم يعد ولدي وحيداً ولن يكون الآخر مُفرداً، لقد رويتكما من نبع حنان قلبي وزودتكما بنفس الخبرة في الحياة، فإذا بكما تزيغان إلى مناهل متباينة، وتضطربان وترتبكان في سيركما.. وتعجزان عن رؤية ما يربطكما معاً، فتنافرتما تنافر الأقطاب الكهربائية المتشابهة، وتأرجحتما ..تأرجح البوصلة المحاطة بالمعادن، وتوشكان أن تتمزقاه كزهرة في يد عابث، أو تتوها كالماسة يبحث عنها معصوب العينين.. بين يديه ولا يدركها! نهرٌ بينكما وأنتما ظمآوان! فليكن جمراً فؤاديكما حتى تتصافحان وتصفحان عن بعضكما، وليكن لهيب في جوانيحكما حتى تربطا مصيركما فينطلق من حاضر متكاتف، إذا اختلف انصاف الأشقاء فكيف يتصرف أولاد العم وٲبناء أولاد العم؟ إذا تأرجحت الأخوة من وسطها فكيف تبنى أخوة الإسلام، جوهر الدين يتضمن التآلف، لن يتحقق إذا مزق كل منكما عمل الأخر، أميكما مختلفتان!  يا لجبروت طغيانكما!  أحقاً تغاير مذهبيكما سبب هذا كله؟ سبب لنظرتما إلى عكس الإتجاه.. يبدو أنكما تتعاركان على كرسي واحد بين 20، تظنان ببعضكما الظنون ويرى فيكم الخصوم الوهن والسقوم، تجمعكما راية التوحيد وعلم الوطن وسقف السكن و تركزان على تمايز بعض الفاظ الأذآن وتضاريس البلاد وتفاصيل البناء، عجبي وأسفي على ما تقدمان عليه ..ما تتجرأن عليه.. ليتكما جسورين في محاربة البغضاء؛ لكنتما أسدين على غنيمة مشبعة، تفترقان بين عيني.. ذرفت عينا الأب دمعتين .. أسرع بمسحهما قبل ملاحظة الشهود، كأن تلك الدمعتين من قلبي رقية وأميمة، تريد أميمة إيقاف هذا كله، وتؤجل تدخلها.. عسى أن يتعظ الولدان..

أطلق الأب عبرة أسى وقال لكل الحاضرين :يلتقط العصفور شربه من ماء الأرض وطوله لا يتجاوز ..12 سنتي متراً ..أي أن ارتفاعه مقارب لحافة الأقدام، فإذا طار وحملته الرياح تطاولت إليه الأعناق، و بحنجرته الصغيرة يغرد فَنَحْبُ إطرابه لنا بأعذب الأصوات، ثم عاد بنظره إلى الولدين وأشار إليهما بسبابته.. أنتما.. أفردا جناحيكما وحلقا…غردا بأقوال غير الأقوال..

لوى زيد عنقه صارفاً وجهه عن أبيه وطلب المغادرة، كتم الأب نفسه كأنه يريد أن يكون آخر عهده بهواء الدنيا لأنه لم يلاحظ على زيد أثار الإنصات لكلامه، انطلق الابن إلى غرفته بينما جاء حسين إلى أبيه وعلى ملمحه  شيء من الاعتذار وقال لٲبيه: يجب علي الصبر على صغر سنه ثم التقط العصى المرمية على الأرض، كلمات خرجت منه بصعوبة فكبرياؤه مجروح حتى اللحظة، لولا مكانة أبيه لما نطق حرف مما قال، نظر الأب إلى ولده بأسف وترك عصاه ليخطو بتعب إلى المجلس.

سارعت رقية إلى المطبخ لأخذ ما يساعدها في التقاط الزجاج المبعثر، ساعدتها وداد بتثاقل بينما تبعت أميمة أخاها إلى المجلس، ربتت بيدها بعدم انتظام على كتفه وذراعه وهي تهون عليه قائلة: طيش الشباب ..سيجبرهما مرور الزمن والخبرة التي سيكتسبانها بالعودة إلى رشدهما.

أخذ عبد الكريم نفساً عميقاً وأخذ يتأمل المزرعة الصغيرة التي أمامه، تبدو أنها تعاني من البرد مع أغصان حليقة من الأوراق ثم قال: ليتهما يتبدلان كتبدل أحوال هذه الأشجار من جفاف إلى خضرة نضرة وزهر متدلل بين البراعم الحديثة الإنبات.

أميمة: سيتبدلان ومصت شفتيها هي تعلم حقيقة الخصام الذي بينهما، وأنهما لا يميلان إلى الٳتفاق لكنهما تمني نفسها وأخاها بخير تظنه قادم لا محالة.

عبد الكريم: لولا وفاة زوجتي الأولى لما اخترت غيرها، فروعة حياتي معها أنستني بقية النساء، وعندما فارقتها واستني الدنيا بأم زيد ..لا مكر ولا إغاضة دخلا نيتي ..فكيف تؤول الأيام إلى هذا الشقاق، أتراني أخطأت حين تركت لهما حرية الانضمام لتوجهات فكرية .. ظننت ٳنها تباينات هزيلة لن تؤثر على كيانهما، أم أني إذا أخترت أماً لها أصول قرشية أو أسرة متعارف فيها القضاء، تقارب وتكأفيء الأولى كان خيراً لنا.

أميمة: أعرف ما حصل ...وأعرفك لذلك لابد من أن تكافأ بمقدار صفاء نيتك. جملتها الأخيرة تؤلمها فقد مالت إلى الكذب خشية أن يصاب عبدالكريم بجلطة تنهي حياته، فالتذهب هذه الغمة أولاً، ثم سيكون لنا موعداً للحساب على النوايا.


طباعة  

مواضيع ذات صلة