الصهيونية وكابوس القلق والخوف من الرمال المتحركة

علي الشراعي

الصهاينة مثل الصليبيين يبحثون عن تبرير ديني وهم يرفضون مثلهم الاندماج في السكان , ويعتمدون على التفوق العسكري وعلى التدفق المستمر لرؤوس الأموال القادمة من الغرب في صورة تبرعات وأسلحة وغيرها , ويعتبرون أنفسهم كقول قادتهم الصهاينة إننا نتم ما بدأ الصليبيون لأن الهدف واحد ..

الصهيونية وكابوس القلق والخوف من الرمال المتحركة

لذا وجب على الدول الصليبية أن تحمد لنا ما فعلنا , وأن تمدنا بكل ما نستطيع به الاستمرار في الاحتلال والسيطرة والبقاء , ولذلك فإن هاجس النهاية المخزية لخروج الصليبيين من القدس يؤرقهم ويزحف نحوهم كرمال متحركة بدأ بحرب 6 أكتوبر 1973, وزادت أكثر منذ 7 أكتوبر 2023م . لتؤكد لهم أن يوما ما ستدفنهم تلك الرمال المتحركة .

التوسع والاستيطان
اعتمد الصليبيون السابقون والصهيونيون اللاحقون على السواء أسلوبا واحدا في التشبث بالأرض وفي التوسع عند الإمكان , القلاع التي نثرها الفرنجة على جميع المعابر إلى المنطقة المحتلة قابلها الصهيونيون بقلاع عسكرية من مثلها ترونها في أنواع المستعمرات التي زرعوها على طول الحدود وفي داخل البلاد وكل منها مسلحة كاملة . وكما كان المحاربون القدماء يعيشون على أراضي الزراعة حولهم , يضع المحتلون الجدد محاربين مزارعين في المستعمرات الجديدة . وكما كانت القلاع الصليبية في القديم تتوزع بين منظمات الداوية والاستبارية والملك والاقطاعيين نجد المستعمرات الصهيونية اليوم موزعة بين الأحزاب والمنظمات الإرهابية .

استهداف مصر
منذ الأيام الأولى للتموضع الصليبي في القدس , لم تكن الموانئ الشامية وحدها هي الهدف فقد كانوا يحتلونها واحدا بعد الآخر , فالأساطيل التجارية الإيطالية وضعت كل ثقلها لاحتلالها لكن عينها وعين مملكة القدس الصليبية معها كانت على مصر وخليج العقبة مصبي طرق التجارة العالمية إلى البحر المتوسط . وقد حاولوا احتلال مصر عدة مرات بحملاتهم الصليبية , وبنوا قلعتين في الطريق إلى أيلة بشرقي الأردن وقلعة في جزيرة فرعون بخليج العقبة بالقرب منها , وأقاموا إمارة في الكرك تسلمها ( أرناط ) الذي حاول بمشاريعه البحرية السيطرة على البحر الأحمر حتى عدن . كما حاول الوصول إلى المدينة المنورة . لذلك صارت مصر هي الطريق التجاري الأكبر والمستهدفة للتوسع والأطماع الصليبية فقد توجهت الحملات إليها , وإلى دمياط الثغر الأول بالذات الحملتان الخامسة والسابعة توجهتا إليها وفشلت الحملتان . وهذا يذكرنا بإغتيال الكونت برنادوت الوسيط الدولي بأيدي الصهاينة خلال تقسيم فلسطين لكي يتوسعوا في النقب , وبإصرار بن غوريون على احتلال أيلة بأسرع وقت سنة 1948م , أو بما أعقب ذلك من أحداث حول خليج العقبة وجزرها في البحر الأحمر والعدوان على غزة عام 1955م , وعدوان 1956م على مصر واحتلال سيناء في عام 1967م ووصوله إلى قناة السويس ومحاولات الكيان الصهيوني النفوذ إلى البحر الأحمر وإلى ما وراء ذلك ليكون مثل مصر المطلة على البحرين الأبيض والأحمر ليضعف دور مصر ويهدد أمنها القومي .

التمزق والتطبيع
حرص الفرنجة الصليبيون منذ أيامهم الأول حتى أيامهم الأخيرة على إبقاء التمزق السياسي قائما في المنطقة حيث اعتبروا ذلك كنزهم الثمين , وحرصوا أكثر من هذا على عقد هدنة مع كل طرف على حدة مع إمارة دمشق , مع إمارة حلب , مع أمراء الجزيرة , مع مصر التي ظلت تحتفظ بعسقلان في أقصى الجنوب الفلسطيني خمسين سنة تماما كما احتفظت مصر في العصر الحديث بقطاع غزة حتى نكبة حزيران 1967م . البند الأساسي في هذه الهدنات الصليبية فتح طرق التجارة والسبل الآمنة , هذا يذكرنا بشعار ( التطبيع ) اليوم وبما تحاوله السلطات الصهيونية من العلاقات مع مصر ومن ثم مع الأردن واليوم مع دويلة الإمارات والبحرين ومملكة المغرب . الصليبيين كانوا كذلك يفعلون ينفردون بالإمارات في المنطقة يضربوها الواحد ة بعد الأخرى بضربات خاطفة صاعقة , أو يهادنونها واحدة و احدة . كانوا يعرفون أن في لقائها بعضها مع بعض نهاية المشروع المهوس , يخشون هذا اللقاء خشيتهم للموت لأنه الموت نفسه . فالصهاينة منذ بن غوريون وإلى اليوم يستميتون في المطالبة بالمفاوضات الفردية والمباشرة ورعبهم من أي لقاء بين دولتين , ولقد جرت هذه اللقاءات في القديم واتفق أمير الموصل مع أمير دمشق فكانت لحظة من أخطر لحظات المملكة الصليبية , وأمير دمشق اتفق مع أمير حلب على ما بينهما من تباين فتمكنت الإمارتان من الوقوف وحارب معها أمام غزة . كما دافع عن ثغرها صور بجنده وماله , لكنها كانت اتفاقات عابرة غير واعية , كما حدث مثل هذه المحاولات بمحاولات الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م أو بين سورية والدول العربية الأخرى .وكان أقصى ما يتمناه الصليبيين أن تعقد الصلة مع إمارات الشاد ودمشق بالذات , لقد أفشلت الحملة الثانية كلها لتبقى لها دمشق التي كانت تهادنها , وعقدت معها حلفا منفردا استمر قرابة اثنتي عشر سنة هو أشبه باتفاقية ( كامب ديفيد ) , ولقد ظلت مملكة القدس الصليبية تلعب على حبال التفرقة حتى سقطت بين الحبال .

نكبة 1948م
أضاع العرب والمسلمون أيام الصليبيين فرصا ذهبية لإنهاء الوجود الاحتلالي الفرنجي ارتسمت حطين عشرات المرات في الأفق قبل حطين بزمن طويل , وكان قصر النظر السياسي وحده هو المسؤول عن عدم اغتنامها , خلال السنوات التسعون التي انقضت بين سنتي 492 هجرية ( سنة الاحتلال ) وسنة 583 هجرية ( سنة التحرير ) شهدت مئات المعارك كما شهدتها مثلها مائة سنة أخرى من بعد , وبعضها في عنف حطين نصرها الحاسم . أول هذه الفرص كانت أمام إنطاكية عشية وصول الفرنجة إلى الشام دخلوا أنطاكية الفارغة من المؤن وهم حوالي مائة ألف وبعد ثلاثة أيام فاجأهم الحصار الإسلامي بستة جيوش فدب فيهم الجوع حتى أكلوا النعال والجلود وعشب الأرض وبادر الكثير منهم بالهرب , حتى الداعية بطرس الراهب ثم خرجوا بهجمة واحدة بائسة فلم يحاربهم أحد من الجيوش المتربصة حولهم واكتفوا بالفرار , كانت هذه المعركة هي التي أدت إلى التوطد الصليبي وإلى احتلال القدس , هذا يذكرنا بحرب سنة 1948 م ودخول جيوش الدول العربية وهزيمتها امام الكيان الصهيوني !.

جسر جوي
وبعد أشهر من الاحتلال والمذابح للمسلمين في القدس والتي بلغ ضحاياها 70 ألف من النساء والأطفال والشيوخ في يوم احتلال الصليبيين للقدس , عاد الفرنجة إلى بلادهم فلقد أدوا مهمتهم , ولم يبق في فلسطين كلها كمهم سوى ثلاثمائة فارس وألفي محارب , ولم تستفد من هذه الفرصة مصر وكانت تستطيع أن تسوق فيما يذكرون ثلاثين إلى خمسين ألف فارس , وايضا لم تستغلها دمشق وكان لديها عشرة آلاف فارس , وكل ما صنعه (طغتكين أتابك ) صاحب دمشق أنه ذهب في كوكب من فرسانه إلى طبرية فأخذ منها مصحف عثمان فدخل به دمشق في موكب حافل وأغلق الأبواب ! . ومرت فرص بعد فرص من هذه اللحظات الحرجة أضاعها المصريون , كان أخطرها حملة مايو 1102م , التي سحق فيها الفرنجة عند الرملة فاختفي ملك الفرنجة الهارب في أجمة قصب أحرقها المسلمون فلحقته النيران , والقدس فارغة دون حامية ولكن النجدات الغربية الصليبية التي وصلت على المراكب قلبت الميزان , مما يعيد مشهد حرب 6 اكتوبر 1973م , والجسر الجوي الأمريكي وثغرة الدفرسوار .

معركة الأقحوانة
وأخطر تلك الفرص كانت معركة ( الأقحوانة ) عند طبرية سنة 507 هجرية , 1113م , بعد أربع عشر سنة بعد الاحتلال الصليبي لبيت المقدس التقى جيشا دمشق والموصل مع الجيوش الفرنجية قرب حطين , وتراءت حطين نفسها في المعركة , بحيرة طبرية اختلط فيها الماء بالدم حتي امتنع الشرب منها أياما , وحشر الجيش الفرنجي محاصرا مهزوما في الجبال شهرين بجرحاه وأثقاله لا يجرؤ على الحركة , ولم يكن في كل مملكة فلسطين من حامية , ووصلت طلائع الجيش الإسلامي حتي مشارف القدس ودانت لهم البلاد بالطاعة . ثم خشي أمير دمشق أن يختطف منه أمير الموصل إمارة دمشق فأقنعه بالعودة واستئناف القتال في الربيع القادم , ولم يأت هذا الربيع أبدا لأن الأمير الموصلي قتل ، وأشد الضرر في هذه الفرص القديمة الضائعة أن الثمن الذي كان يدفع فيما بعد كان دوما أغلى .
المقاومة الإسلامية
إن المقاومة الإسلامية للفرنجة لن تتبلور التبلور السريع لأسباب عديدة كانت تتصاعد حالا على حال مع ازدياد اندماج المنطقة ووعيها للكارثة , المعارك التي استمرت تسعين سنة أفرزت الكثير من البطولات كما سفحت على التراب الكثير من الشرايين . في حين كان الحزن يعشعش أكثر فأكثر في الصخور والعيون والقلوب . ومن هذا الصمود صاغت المنطقة عشرات الرجال وكان لكل منهم حطينه على مقداره , كل منهم ضرب سيفا في حطين المقبلة ولو لم يحضرها . أليس في سجل الصمود اليوم مئات بل آلاف الأسماء التي تسجل في انتظار حطين المقبلة .كانت عملية تحرير فلسطين من الفرنجة من عمل مصر والشام بالذات , وكان شمال العراق هو العمق الاستراتيجي للعملية , ويبدو أن المنطق الجيو – بوليتكي لا يزال قائما ولا تزال عملية التحرير من مهمات هذه المنطقة بالذات قبل غيرها , وإن كان منطق العصر لا يكتفي بها ويدخل في التحرير ما لا ينتهي من العناصر والمناطق الأخرى . لذلك نستطيع أن نفهم لماذا ارتجفت أركان الكيان الصهيوني والدول التي تستخدم الكيان لخدمة مصالحها من الوحدة التي قامت سنة 1958م بين مصر وسوريا . لقد رأى فيه الكيان كما ظل يرى في كل مشروع وحدوي أو محور مقاومة بداية النهاية له , أنه إنما يقوم على تمزق المنطقة وفتاتها , فالضباع لا تعيش إلى على الجيف والكيان الصهيوني يفهم هذا الدرس جيدا , بقي أن يفهم العرب والمسلمين هذا الدرس وأن يعرفوا حقيقة هذا الكيان والقلق الذي يساوره من نهاية تكون كنهاية الصليبيين . والكيان الصهيوني اليوم في ذكرى ال76 من وجوده وزرعه بفلسطين يواجه أقوى مقاومة منذ أكثر من سبعة أشهر رغم الدعم الغربي الصليبي له وبرغم مذابحه النازية الإرهابية بحق سكان غزة وارتكابه لجرائم حرب وإبادة جماعية أمام مسمع ومشهد العالم لتلك الجرائم والابادة ، ولكن ستبقي رمال المقاومة متحركة وسوف يأتي يوم تطوقه لتدفنه فيها .

 

 

 


طباعة  

مواضيع ذات صلة